Thursday, April 28, 2011

في الاصل كان الانسان



فى البدء كان الانسان ذلك المخلوق الرائع الذى قال فيه الحق سبحانه وتعالى فى سورة الاسراء ( ولقد كرمنا بنى ادم وحملناهم فى البر والبحر وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) ثم ذكر سبحانه وتعالى فى سورة التين ( لقد خلقنا الانسان فى احسن تقويم ) هذا الانسان المعجز بدأ حياته على الارض حياه بدائية وحشيه ساذجة ، حيث كان يعيش على التقاط الثمار والقنص وبالكاد الرعى ، حيث كان العالم كله ليس له مالك ولا صاحب والانسان حر تماما يتحرك كيفما يشاء متى شاء ، بحثا عن طعامه وشرابه البسيط وفق حياته البسيطه ومتطلباته اليسيرة ، وظل على ذلك عقوداً طويلة حتى اكتشف هذا الانسان فى رحلة صراعه مع الطبيعة والكون الزراعة ، والتى كانت اول ثورة كبرى فى تاريخ البشرية ، حيث كان يعنى ذلك ولاول مرة فى تاريخ الانسان الاستقراروالاستيطان ، والزراعة بطبعتها كنشاط تتطلب التعاون والمزاملة ومن هنا بدأ يظهر اول تجمع انسانى تتساند فيه وتتكاتف الجهود البشرية للزراعة والخدمة وجمع المحصول وتخزينه وحفظ التقاوى للموسم الزراعى التالى0
       
والارض كانت متاحة للجميع فالارض واسعة والسكان محدودون والخير كثير والناس لازالت على فطرتها الاولى النقية الساذجة ، ومن هنا بدأت الحضارة فى ظل مجتمع بشرى اكتفائى ، يجد كل فرد فيه حاجته الاساسية كما يجد فيه ايضاً الامن الذى هو من اهم الحاجات البشرية ، واستطاع الانسان ان يكتسب العديد من عوامل الثقافة من خلال معايشته لواقعه الزراعى المحدود والمرتبط بالبيئة التى يعيش فيها ، والثقافة هنا تتمثل ببساطة فى طرائق الانتاج والحياة وتربية الاطفال وكيفية التعامل والزواج والدين والتعليم والعبادة وتنظيم المجتمعات المحلية المحدودة وما الى ذلك من قيم ومعايير وعادات وتقاليد وما اليها من عناصر مكونة للثقافة الحياتية السائدة 0
        
 ويكفى ان نعلم ان كلمة الثقافة فى اللغات اللاتينية تعرف ب    cultureوالزراعة تعرف ايضاً فى تلك اللغات ب  agriculture ، وتحضرنا هنا قصة طريفة تتعلق بالثقافة والزراعة التى هى ليست مجرد حرفه او مهنه يمتهنها الانسان ولكنها فى الحقيقة نمط حياة متكامل ، مع العلم ان اغلب السمات الثقافية للفلاحين عبر العالم اجمع تكاد تتشابه تماماً وسوف نتناول هذا الامر بعد ان اذكر هذه الواقعة التاريخية ، والتى رواها البكرى عن هشام الكلبى المؤرخ العربى المعروف وفيها ان ثقيفاً والنخع كان ابنى خالة وقد خرجا من قومهما ومعهما غنيمة اى قطعة يسيرة من الغنم لهما فيها شاه معها جدى فعرض لها مصدق اى عامل جمع الضرائب لأحد ملوك اليمن فارادهما على اخذ الشاه ذات الجدى ، فقالا له خذ غيرها ما شئت الاانه ابى الاتلك الشاه ، فأشار احدهما الى زميله ان اطلق عليه سهمك فرماه بسهم ففلق قلبه فمات من ساعته ، فقالا لبعضهما اننا هكذا مطلوبان ولن تحملنا ارضاً واحدة بعد الآن فواحدنا يغرب والآخر يشرق ، فقال قسى وهو ما يعرف فى التاريخ بثقيف انى اغرب وقال الاآخر وانا اشرق فانفصلا ، ومضى قسى حتى اتى الى مكان يعرف بوادى القرى فنزل عند عجوز يهودية لاولد لها ، فكان يعمل بالنهار ويأوى اليها بالليل ، فاتخذها اماً واتخذته ابناً ، فلما حضرتها الوفاة فقالت له : ياهذا لا أحد لى غيرك ، وقد اردت ان اكرمك لإلطافك بى ، وإن كنت اعتبرك ابنى ، وقد حضرنى الموت ، فإن انت واريتنى، فخذ هذا الذهب ، وقسم هذه القضبان من العنب الى ( عقل ) واهتم بها واغرسها فى الشتاء ، إن انت نزلت واديا تقدر على الماء فيه ، فإنك ستنتفع بها وماتت 0
        فاخذ الذهب والقضبان وارتحل حتى اذا كان قريباً من منطقة تسمى "وج " وهى ماتعرف الآن بالطائف ، فإذا هو بأمه يقال لهاخصيله ترعى ثلاث مائة شاه فأسر فى نفسه طمعاً فيها ، وفطنت هى الى ذلك ، فقالت له كأنك اسررت فى نفسك طمعاً ، تقتلنى وتأخذ الغنم ، قال : اى والله ! قالت والله لو فعلت ذلك لذهبت نفسك ومالك واخذت منك الغنم ، انا جارية عامر بن الظرب العدوانى سيد قيس وحكمها ، واظنك خائفاً طريداً ، قال : نعم ، فقالت اانت عربى ؟ قال: نعم ، قالت : فأنا ادلك على خير مما اردت ، مولاى اذا اوشكت الشمس على المغيب يقبل فيصعد الجبل ، ثم يشرف على هذا الوادى ، فإذا لم يجد فيه احداً وضع قوسه وجبته وثيابه ثم ينحدر فى الوادى ليقضى حاجته ، ثم يستنجى بماء من العين ، ثم يصعد فيأخذ ثيابه وقوسه ، ويدعوا قومه للعشاء فى بيته ، فارقبه من الغد واسبقه الى الصخرة واكمن له عندها ، فإذا وضع ادواته وثيابه وقوسه فخذها ، فإذا قال لك من انت؟ فقل: غريب فأنزلنى ، وطريد فآونى ، وعزب فزوجنى ، فإنه سيفعل ، ففعل ذلك قسى ، فقال له من انت؟ قال : انا قسى بن منبه وانا طريد فآونى ، وغريب فأنزلنى ، وعزب فزوجنى ، فانصرف به الى "وج " وخرج منادياً له فنادى ألا من اراد اللحم والخمروالتمر واللبن فليأت دار عامر ابن الظرب ، فأقبل كل من حوله من القوم ، فلما اكلوا وتمتعوا وفرغوا قال لهم الست بسيدكم وابن سيدكم وحكمكم ؟ قالوا بلى ! قال الستم تؤمنون من امنت وتؤون من آويت وتزوجون من زوجت ؟ قالوا بلى ! قال هذا قسى بن منبه وقد زوجته ابنتى زينب ،وآويته معى فى دارى وأمنته ، قالوا نعم! فغرس قسى قضبان العنب بوادى "وج" فأنبتت واورقت وعندما اثمرت قالت العرب قاتله الله ما اثقفه ومن هذا اليوم سمى ثقيفاً وملكوه عليهم بعد وفاة سيدهم بل وسمى الوادى بأكمله ثقيفاً 0
       
 
 الى هذا الحد كان الارتباط بين الثقافة والزراعة التى هى طريقة ونظام حياة ، حيث استقر الانسان الاول وبنى حضارته وصنع ثقافته والتى سادت جميع المجتمعات الزراعية فى العالم ، فجميع الفلاحين ليس لديهم احساس دقيق بالزمن فلا يقول احدهم الساعة كذا ، ولكن يقول مثلاً عشية وهو وقت ممتد من العصر الى ما بعد العشاء ، لأنه يزرع المحصول ويجنيه بعد ستة اشهر على الاقل ولذا فانه قد تكيف مع الصبر على مرور الوقت ولم يعد الزمن بمفهومنا الحديث يعنى له شيئاً ، وكذلك المسافة حيث تمتد امام ناظريه الحقول متسعة كأن ليس لها نهاية ، فإن سألته عن المكان يقول لك فركة كعب وقد تكون فركة الكعب هذه ثلاث كيلومترات كاملة ، وهناك الكثير من الخصائص الثقافية التى يشترك فيها جميع الريفيين حتى يومنا هذا ، مثل القدرية وعدم الاعتراف بقدرة الانسان على التغيير ، لأنه اعتاد على ان الزراعة البدائية مرهونه بسلامة الاحوال الجوية ، وهو فاقد القدرة على تفسير ذلك، وكذلك غلبة الوازع الدينى ايًا كان هذا الدين ، وهى خصائص مكتسبة من واقع الحياة الريفية التى تعد الزراعة فيها هى الحرفة الاساسية لأغلب السكان ، وان اقصى عدد لأيام العمل الزراعى حتى فى ظل الزراعة الكثيفة لايتجاوز ثمانين يوماً فى العام 0
        اما الزراعة فى عهدها الاول الساذج فقد كانت عملياتها الانتاجية ميسورة وسهلة وفى مراحل تكوينها الاولى ، حيث وسائل الانتاج فيها بسيطه وقليلة وجماعية ، ولا يوجد فى المجتمع طبقات او مستويات اجتماعية ، بل الكل سواء يعيشون على المشاع من كل شىء سواء الارض او وسائل الانتاج البدائية والبسيطة والتى تفى بالغرض ، او فيما تغله الارض من غلة تكفى لجميع السكان ، حيث ايضاً الحاجات بسيطة ومحدوده ،كما لايوجد فى المجتمع اى شكل من اشكال الملكية 0
       
بعد ذلك بعقود طويلة بدأت المشكلة عندما أعلن اول انسان من سكان الريف ان هذه الارض ملكى انا ، طبعاً بدأت بالقوة وبالحيلة والمكر ، ومنذ هذا اليوم بدأت تظهر اول اشكال الملكية وماتعنيه من سيطرة وتحكم ، واخضاع الغير للعمل فى ارض الغير وانتفت السذاجة الاولى للسكان الزراعيين الاحرار ليحل محلها ابشع صورة من صور استغلال الانسان لأخيه الانسان ، حيث ظهر اول تقسيم للعمل مما ادى الى زيادة القوى الانتاجيه ، وظهرت الملكية الفردية وما يتضمنه ذلك من اللامساواه ، وظهور اول اشكال السيطرة والتحكم فى شكل دولة بدائية اساسها المالك الفرد ، الذى حول المزارعين الذين كانوا فى السابق احراراً الى عبيد يأتمرون بأمر المالك السيد المسيطر ، وكانت هذه بداية ظهور الطبقات الاجتماعية ، فى صورة طبقتين السادة والعبيد


د/ عوض مطواح

No comments:

Post a Comment