Saturday, May 14, 2011

تطور الانسان والفكر الانسانى



فى ظل النظام الاقطاعى عاشت البشرية عهدا من القسوة والصعوبة والاستبداد نتيجة اغلاق المجتمعات الاقطاعية وتقييد حرية السكان الذين هم اقنان الارض وعدم السماح لهم بمغادرة الارض , ومن يتم القبض عليه يعود مكبلا بالحديد مقهورا حيث غير مسموح لهذه الطبقة بالعمل او العيش خارج حدود الاقطاعية , والتى هى وحدة سياسية واقتصادية شبه  محصورة على القاطنين فيها , فضلا عن ان الاقطاعية وحدة متكاملة منغلقة تماما على سكانها وتعتمد اعتماد كلى على تكريس هيمنة النبلاء والفرسان ورجال الدين على كل نواحى الحياة الاجتماعية والاقتصادية بل والروحية , ومن المعلوم ان المجتمع الاقطاعى مجتمع نظامه الاقتصادى نظام عينى ( غير نقدى ) يعتمد على المبادلات السلعية المباشرة ولذلك لم يكن مسموحا بالغرباء الدخول الى حدود الاقطاعية والعمل فيها اوممارسة اية انشطة من اى نوع , وكانت تنتظم الاقطاعيات الشاسعة تحت لواء الملك الذى تقدم له الاقطاعية قدرا من المال يدفع سنويا نظير بسط ولايته وحمايته على الاقطاعيات المنضوية تحت سيادته .

        وكانت الكنيسة المستفيد الاكبر من هذا النظام حيث كانت تتولى الحصول على عشر ناتج الارض دون اى مجهود او نشاط تبذله هى اكبر المدافعين عن هذا النظام , فضلا عن العوائد التى تحصل عليها نتيجة ادارة اراضى الاديرة واراضى الكنيسة التى كان يعمل بها الاقنان فى اوقات فراغهم تقربا الى الله وانتظارا لملكوت السماوات , كما كان للكنيسة سلطان واسع على الرعايا من ابناء الاقطاعية من اقنان الارض , وكان السادة لايقدمون على عمل الا بعد الحصول على مباركة الكنيسة وموافقتها , كما كانت تروج الكنيسة لمبدأ التفويض الالهى والذى يتضمن : ان الله هو الخالق للدولة وهو الذى يختار الملوك والسادة مباشرة ويؤهلهم للحكم , وبالتالى على الشعوب او المحكمومين السمع والطاعة حيث ان الحاكم يستمد سلطته من الله مباشرة وان من حسن العبادة والايمان الخضوع لاحكام هذا الملك او السيد وعدم الخروج علية والقبول والرضا بسيادته وحكمه , فضلا عن الاعتراف له بحق الطاعة لأن السادة مسئولون امام الله فقط ولا يجوز لأحد مهما كان محاسبتهم , وكان هذا احد الاسباب التى ادت الى طغيان الحكام والسادة وبالتالى قهر المحكومين والاقنان .
        تطورت حياة السادة من النبلاء والفرسان الى مزيد من الترف , كما زادت الخلافات والتناحرات بينهم , مما كان سبباً فى طلبهم مزيدا من الاموال والثروات وذلك بالحصول على الكثير من نصيب اقنان الارض , والذين كانوا يحتفظون بالقدر الضرورى لاستمرار حياتهم من المحاصيل التى ينتجونها بعرقهم وكدهم الخالص والذى لم يكن يساهم فيه السادة باى قدر او تمويل , مما ارهق الاقنان وقلل من قدرتهم على الاستمرار فى هذا الوضع الذى لم يعد يترك لهم القوت الضرورى لاستمرار حياتهم , مما اضطر معه كثير من اقنان الارض للهرب من اقطاعياتهم التى عاشوا فيها فى ذل وحرمان وقهرواستبداد ، ولم يكن لهم ملجأ الا المدن الجديدة والتى يستطيعون فيها الهرب من سلطة حكامهم القدامى وجبروتهم وقسوتهم وسلب كافة ما ينتجونه من الارض .
        ومع تقدم الحياة وتطور المجتمعات نشأت وتكاثرت المدن وخاصة عواصم الممالك والدول ونشوء مجتمعات مختلفة تماما عن تلك السائدة فى المجتمعات الاقطاعية  , ونشأ مايعرف بالدولة بمفهومها الحديث , اى مجموعة السكان الذين يعيشون على ارض واحدة ولهم نظام حكم ثابت ينظم حياتهم السياسية والاقتصادية والعسكرية وغيرها من نواحى الحياة المختلفة , وينظم علاقاتهم الخارجية مع غيرهم من الدول والممالك , وكان اول ما ظهرت فى اوربا وبالذات فى فرنسا فى عصر ملكها لويس الحادى عشر , ثم بعد ذلك فى انجلترا فى عهد الملك هنرى الثامن , وقد استتبع ذلك ظهور انشطة اقتصادية وحرفية منظمة من خلال تجمعات وتنظيمات لم تكن موجودة من قبل , كما بدأت تظهر الى الوجود فئات جديدة كالصناع والتجار ورجال القانون وغيرهم ممن تطلب النمو وطبيعة العيش وجودهم , ثم بدأت العديد من الانشطة الانسانية فى الظهور تباعا والتى كان اهمها الكشوف الجغرافية وما ترتب عليها من استجلاب الكثير من الخامات والسلع والثروات من المناطق المكتشفة وظهور الحاجة الملحة الى تصريف وترويج تلك السلع , حتى يمكن للحياة وفق هذا النشاط من ان تستمر خاصة ان هذه الانشطة قد عملت على زيادة الثروات , فضلا عن تصريف السلع التى كانت تنتجها هذه المدن وضاقت الاسواق المحلية عن استيعابها , وبما ادى فى بعض الاحيان لظهور بطاله محدودة وركود , وهى مشكلات صاحبت نمو المدن وفق نظم اقتصادية لم تكن موجودة من قبل .
        حاول التجار الجدد والذين اصبحوا من كبار اصحاب الثروات الضخمة الترويج لما تحت ايديهم من السلع التى كان ينتجها الحرفيون واصحاب المهن اليدوية من سكان المدن وكذلك السلع الوافدة من المناطق حديثة الاكتشاف فى اسيا وافريقيا وامريكا والتى عرفت بالارض الجديدة , وذلك عبر الاقطاعيات القديمة والتى كانت تقاوم ذلك بشدة خوفا من تسرب الثروات خارج حدود الاقطاعيات والتى كانت تحيا حياة الاكتفاء من الغلات والنواتج الزراعية المختلفة من ناحية , ومن ناحية اخرى الحيلوله دون هروب المزيد من اقنان الارض , والذين كان من اسباب هروبهم ضعف هذه الاقطاعيات وتدهور الحياة الاقتصادية وتداعيها فيها , كما حاول هؤلاء التجار الترويج لانشطتهم فى الانتقال والتجارة عبر تلك الاقطاعيات , وبما يضمن لهم كسب مزيداً من المنفعة والربح والازدهار وتبادل المنافع مع منتجات تلك الاقطاعيات والتى تقاوم ذلك بقدر ما تسطيع للمحافظة على حقوق السادة ومكتسباتهم , ومن هنا نشأت الدعوة المعروفة تاريخيا ب: دعه يعمل ..دعه يمر  , وذلك ايذانا ببزوغ نشاط اقتصادى اكثر تطورا واكثر قدرة على التعامل مع المعطيات التى انتجها ما اسفرت عنه الكشوف الجغرافية ونمو واتساع المدن واشتمالها على انماط من الانشطة الاقتصادية المستحدثه , وبما ادى بعد ذلك الى ضعف وهدم واضمحلال النظام الاقطاعى برمته , ومهد لظهور, الطبقات البرجوازية .

        وبالتزامن مع نشأة وتطور المدن والكشوف الجغرافية واتساع حركة التجارة مع العوالم التى لم يكن الوصول اليها سهلاً من قبل . حدثت ثانى اهم ثورة فى تاريخ البشرية وهى الثورة الصناعية والتى اسهمت اسهاماً غير محدود فى تغيير وتطوير الفنون الانتاجية السائدة ( التكنولوجيا ) وما ترتب عليه من سيادة  انماط جديدة للانتاج تعتمد على استخدام الالات الميكانيكية و تجميع القوى الانتاجية وتركيزها فى ما اصبح يعرف بالمصنع وما ترتب عليه من التخصص و تقسيم العمل وظهور هذا المصطلح الهام لاول مرة فى التاريخ البشرى وتطور وتغيير القوانين الحاكمة من : الاستسلام مقابل السكن والطعام فى النظام العبودى او الرق ثم: الولاء مقابل الامن فى النظام الاقطاعى , ثم اصبح هذا القانون ولاول مرة فى تاريخ الانسان : قوة العمل فى مقابل الاجر , ولاول مرة ايضا تصبح القوة الجسدية والجهد الانسانى سلعة كاى سلعة لها ثمن تباع وتؤجروتشترى .

 كما ظهر فى هذا الوقت مصطلح جديد لم يكن معروفا من قبل وهو مصطلح البرجوازية او ان يسمى الشخص برجوازى وهى تعنى فى الاساس ساكن المدينة من التجار واصحاب الرأسمال والموظفين الرسميين حيث يتكون اللفظ برجوازى من مقطعين : برج اى مدينة فى اللغة اللاتينية و: وازى اى ساكن وبهذا يكون معنى الكلمة اصطلاحيا ساكن الدينة ولكنه من حيث المعنى الاجرائى : ان البرجوازى ليس كل سكان المدن ولكن ذلك الشخص المنتمى الى الطبقة المتميزة من سكان المدن الذين يمتلكون المال او المقدرة على تنظيم الاعمال والانشطة الاقتصادية او الفكرية دون ان يمارس اى منهم عملا يدويا او بدنيا وهم من عرفوا فيما بعد بذوى الياقات البيضاء من التجار والحكام والمنظمين والمفكرين ومن يماثلونهم من غير العمال او الفلاحين , مثل المعلمون والمحامون والكتاب والمفكرون والمحاسبون والاطباء وغيرهم ممن يعملون فى قطاع الخدمات العامة .
        فى هذا المناخ المتسم بالتغيرات السريعة وعدم الاستقرار فى البناءات الاجتماعية والوظائف الاجتماعية والاقتصادية , والتغير السريع فى القيم الاجتماعية والاقتصادية وتغير فى البناءات القيمية للافراد والمجتمع , ظهر العديد من المفكرين والعلماء والمصلحين من النابهين من ابناء المدن , والذين حاولوا تفسير التغير الاجتماعى والاقتصادى ودراسة اسبابه ودوافعة , وطرائق التعامل مع تلك التغيرات وفهمها ومحاولة السيطرة عليها بما يضمن استقرار الاوضاع وتحسين ظروف الحياة ,  والذين كان لجهودهم الفكرية الرائعة اكبر الاثر فى تغيير نظرة افراد المجتمع للحياة والنظام العام ونظم الحكم , والتى كان من نتيجتها تنوير المجتمعات وتسهيل كسبها للتطورات الجديدة فى المجتمع من شيوع التخصص وتقسيم العمل وسيادة الافكار الثورية بمفهوم ذلك العصر, وبما يعنى نزع القداسة عن كثير من الافكار والاشخاص والمواقع التى سادت قبل تلك المرحلة والتى من بينها الاصلاح الكنسى ونشوء مذاهب دينية جديدة بشرت بمنح الانسان مزيدا من الحرية والعقلانية , وكذلك نشأة العلوم التجريبية بالمفهوم الحديث القائم على التجربة والتحليل والمقرنة وفق قواعد العلم الحديث المعروفة الان وبالتالى سقوط الخرافة والابتذال .

        عرف هذه الحقبة التاريخية بعصر النهضة والذى اتسم بكثير من الافكار الثورية التى تدعوا الى الاصلاح فى جميع نواحى الحياة الفكرية والدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية , وتقدير واحترام اصحاب المواهب والافكار المتميزة والعلماءوالمخترعين من ابناء هذا العصر , فكما كان التمرد البروتوستانتى على هيمنه وفكر الكنيسة الكاثوليكية هو اول دعوة لالغاء المقدس وبالتالى تمكين الانسان من التحرر من الخوف والخرافة , وسيادة النظرة العقلانية الى الكون والبشر والحقائق والظواهر والاحداث , ثم حاول هذا الفكر الجديد تحرير الانسان واعلاء قيمته , والدفع به نحو افاق المشاركة وممارسة الديمقراطية .
        وكان من اهم افرازات هذه المرحلة ظهر فكرة العقد الاجتماعى لتحل محل التفويض الالهى , ومجمل نظرية العقد الاجتماعى : ان الدولة (ارض او اقليم وسكان اى بشر وسلطة تنظم وتحكم هذا الكيان ) وهى هنا تمثل السلطه ترجع وتعود الى الارادة المشتركة لافراد الجماعة الذين اجتمعوا واتفقوا على ايجاد مجتمع سياسى يخضع لسلطة عليا , وبما يعنى ان الدولة فى الاصل قد وجدت بناء على عقد اتفقت علية وصاغته الجماعه السكانية من ابناء هذا الاقليم , وقد تصدى ثلاثه من كبار مثقفى ذلك العصر ومفكرية وفقهاءه على شرح وتفسير ذلك العقد على النحو التالى :
        هوبــــز:  يرى هذا المفكر الانجليزى ان الانسان كان يعيش قبل ظهور الدولة فى حالة فوضى مبعثها الشر المتأصل فى نفوس البشر , وكانت الغلبة للأقوياء والحق يتبع القوة , وبمواجهه هذه الحالة من الفوضى والعشوائية البدائية والتماسا للامن والاستقرار فقد بحث الناس عن وسيلة لحمايتهم , وكانت هذه الوسيلة هى اتفاقهم على اختيار شخص من بينهم يكون هو الرئيس عليهم ويتولى نظير ذلك رعاية مصالحهم وحمايتها .  ويرى هوبز ان الحاكم لايكون طرفا فى العقد , وانما يعقد هذا العقد كل الناس والسكان الاهو , ويتنازل الناس طواعية بموجب هذا العقد عن جميع حقوقهم طواعية بدون قيد او شرط , وبما يعنى ان سلطته مطلقة ولا يجوز مساءلته عما يفعل اى ان سلطته مطلقة .

        جون لوك : وكان هذا المفكر ذو رؤيه اكثر تطورا وتقدمية من ( هوبز )  حيث انه كان يرى ان الانسان والجماعة البشرية لم يكونوا يعيشون فى فوضى , وانما كانوا يتمتعون بحريتهم فى ظل القانون الطبيعى ( غير المكتوب ) ولكن هذا القانون كان غامضا وليس له تفسير محدد ولكنهم كانوا متشابكى المصالح المتعارضة فى بعض الاحيان , ولذلك قرروا ان يتركوا هذه الحرية المطلقة الى نوع من النظام يكفل لهم التعاون فيما بينهم , على ان يخضعوا لسلطان عادل عن طريق اختيارهم الحر ليتولى احدهم بالتالى القيام بامورهم , والافراد وفق نظرية هذا الفقيه لا يتنازلون عن كل حقوقهم للحاكم , ولكن يحتفظون بالحريات والحقوق الاساسية لهم , كما ان الحاكم هو طرف فى العقد , ولذلك يجوز لهم عزله اذا اخل بشروط العقد الى اتفقوا عليه .

        جان جاك روسو : يرى هذا الفيلسوف ان الانسان كان يعيش قبل نشأة الدولة فى حرية كاملة , ولكن تعارض المصالح والميول والنزعات الشريرة لدى هؤلاء الناس , فقد اضطرت الافراد الى البحث عن عن نظام سياسى  يكفل لهم الامن ويحقق العدالة , فتعاقدوا على انشاء مجتمع سياسى يخضع لسلطة عليا , ويعتبر هذا العقد فى حد ذاته اساس نشأة الدولة وسند السلطة معاً, واساس العقد عند هذا المفكر ان الافراد تنازلوا عن حرياتهم الطبيعية للجماعة , مقابل الحصول على حريات مدنية جديدة يكفلها المجتمع على اساس المساواه , وان العقد تتولد عنه اراده عامة هى ارادة الجماعة اى ان الافراد يتنازلون عن حقوقهم للجماعة وليس لشخص الحاكم , وان الارادة العامه للجماعة مستقلة عن ارادة كل فرد على حدة , وهى مظهر لسيادة المجتمع وتعبير عن هذه السيادة , ولايجوز التنازل عن هذه السيادة , اما الحاكم هنا فهو ليس طرفا فى العقد , ولكنه وكيل عن الامه والجماعة وفقا لارادتها وللامه حق عزله متى ارادت ذلك , وهذه النظرية وفق هذا الطرح هى اقرب مايكون لروح الديمقراطية الحقيقية حيث اماطت بالامة حقوق السيادة وانها مصدر السلطات .
        

 د. عــــــوض مطواح
  
         

No comments:

Post a Comment